تحقيقات وتقاريرعام

صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (38)

أبو مسلم والحجاج .. وجهان لعملة رديئة

كان أبو مسلم الخراساني قرين الحجاج بن يوسف في الجبروت وسفك الدماء .. لكن ضحاياه كانوا أضعاف ضحايا الحجاج .. والفارق بينهما أن دولة بني أمية قدرت للحجاج صنيعه وما قام به من أجل دولتهم، فظل واليا علي العراق وخراسان قرابة 20 عاما حتي مات في أواخر عهد الوليد بن عبدالملك سنة 95 هجرية، ومن شدة فرحة الناس بهلاك الحجاج سموا السنة التي مات فيها “عروس العراق” .

لكن لم ينل أبو مسلم في دولة بني العباس ما ناله الحجاج في دولة بني أمية، ربما لأن الحجاج كان شديد الإخلاص والطاعة لعبد الملك بن مروان وابنه الوليد من بعده ولم يذكرهما يوما إلا بكل تقدير وعرفان .

أما أبو مسلم فكان معتزا ومغترا في نفس الوقت بما قدمه لدولة بني العباس خاصة أنه لعب الدور الأبرز في قيام ملكهم، وإذا كان أبو العباس السفاح قد قبل ذلك علي مضض، فذلك لأن الدولة كانت وليدة ودعائمها لم تستقر بعد، أما أخوه أبو جعفر فلم يكن ليقبل ذلك وهو من هو في الدهاء والجبروت والمكر والخداع وسعة الحيلة.

وكان من ضيق أفق أبي مسلم وسوء حظه أنه اصطدم مبكرا بأبي جعفر المنصور أخطر وأدهي رجالات البيت العباسي في بداية نشأة دولتهم، ما جعل المنصور يشعر بالخطر الشديد منه وأنه لن يعرف الراحة والاستقرار ولن تقف دولته علي أرض صلبة إلا بعد الخلاص من أبي مسلم .. وهذا ما فعله أبو جعفر في أول سنة من حكمه الطويل الذي امتد 22 سنة.

قيل للعالم العابد الزاهد عبد الله بن المبارك‏:‏ أبو مسلم كان خيرًا أو الحجاج ؟ قال‏:‏ لا أقول إن أبا مسلم كان خيرًا من أحد، ولكن الحجاج كان شرًا منه‏.‏

وكان أبو مسلم شجاعًا ذا رأي وعقل وتدبير وحزم ومروءة وقيل له‏:‏ بم نلت ما أنت فيه من القهر للأعداء، فقال‏:‏ ارتديت الصبر وآثرت الكتمان وحالفت الأحزان والأشجان حتى بلغت غاية همتي وأدركت نهاية بغيتي.

ثم قال‏:‏ قد نلت بالحزم والكتمان ما عجزت عنه

ملوك بني ساسان إذ حشدوا

ما زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا

من رقدةٍ لم ينمها قبلهم أحد

طفقت أسعى عليهم في ديارهم

والقوم في ملكهم بالشام قد رقدوا

ومن رعى غنمًا في أرض مسبعةٍ

ونام عنها تولى رعيها الأسد

جاء في “كتاب سمط النجوم العوالي في أبناء الأوائل والتوالي” لعبد الملك بن حسين العصامي، أن أبا مسلم كان فصيحا عالما بأمور السياسة شجاعا فاتكا أحصي ما قتلهم في حروبه وسجونه فكانوا أكثر من 600 ألف ولم يُر مازحا قط، ولم يكن يظهر عليه سرور ولا غضب.

عن ابن المعافي أنه قال لأبي مسلم: أيها الأمير لقد قمت بأمر لايقصر بك ثوابه عن الجنة في إقامة دولة بني العباس، فقال : خوفي من النار والله أولي من طمعي في الجنة، إني أطفأت من بني أمية جمرة، وألهبت من بني العباس نيرانا، فإن أفرح بالإطفاء فواحسرتا من الإلهاب.

وحدث أبو نميلة عن أبيه قال: سمعت أبا مسلم بعرفات يقول باكيا: اللهم إني أتوب إليك مما أظن أنك لن تغفره لي، فقلت: أيها الأمير أيعظم علي الله تعالي غفران ذنب ؟

فقال إني نسجت ثوبا من الظلم لا يبلي ما دامت الدولة لبني العباس، فكم صارخ وصارخة تلعنني عند تفاقم هذا الأمر، فكيف يغفر الله تعالي لمن كان هذا الخلق خصماؤه؟

نعود إلي أبي جعفر المنصور الذي بدأ يمهد للإطاحة بابن أخيه عيسي بن موسي من ولاية العهد ليجعلها في ابنه محمد الذي لقبه بالمهدي، وقد ظل المنصور متأنيا 10 سنوات لسببين، أولهما أن يتخلص من كل أعداء الدولة ويرسخ دعائمها، وثانيا أن ابنه كان صبيا صغير السن وقتها لكن بعد مرور 10 سنوات واستقرار الأمور وتجاوز محمد المهدي سن العشرين أيقن أبو جعفر أن الوقت قد حان ليجهز ولده لخلافته علي حساب عيسي بن موسي ابن أخيه الذي كان من أهم سيوف بني العباس، ومن شجعانهم وأصحاب الرأي فيهم.

لكن كما قلنا قبل ذلك الملك عقيم ولايبالي بالأقارب والأرحام .. والتاريخ يحوي مواقف وأحداثا في هذا الشأن، يندي لها الجبين وتقشعر لها الأبدان.

فما هو السيناريو الذي وضعه المنصور لخلع عيسي بن موسي من ولاية العهد ؟

نجيب في الحلقات المقبلة إن شاء الله .

 

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى